الثورات العربية و دور السينما
انطلاقاً من اعتقادنا أن الفنان هو ابن واقعه ويحمل رسالة تنبثق من هذا الواقع ، فإنه كثيراً ما يقف أمام تساؤل يطرق باب حاضره ، ألا وهو : ما هو الموضوع الذي ينبغي أن يعالجه أو الفكرة التي سيقدمها لمجتمعه من خلال عمله القادم؟. لقد باتت الإجابة على هذا السؤال ليست بذلك التعقيد، وخصوصاً للمتبصّر بواقع يعايشه إنسان مثقل بصلوف العيش وردح الظروف.
أيها السيدات والسادة:
إن الثورات العربية بأسبابها ومخاضها، وشعوبها ونتائجها،قدمت لنا الكثير من الأفكار والموضوعات لنعالجها، وحمّلت الفنان مسؤولية كبيرة تجاه مجتمعه وأمته، وغدت ذات رسالة أسمى وأثقل لأنها ستعكس ثورة الشعوب، وستسلط الضوء على قضيته الراهنة، نعم فلقد فتحت الثورات لكم باباً عريضاً لفن هادف، ووسعت المجال لسينما رائدة تنجذب إليها أفئدة الشعوب. فالشعوب التي استطاعت أن تتحرر من عقود الاستبداد ستستطيع أن تعدّل من مسار الفن ورسالته، والشعوب التي صدحت بكلمات الحرية، وطالبت بالكرامة، والتي قارعت أسباب الفقر والجهل والجوع والمرض والتخلف، واستطاعت أن تقرر مصيرها، هي نفسها ستدرك قيمة الفنان الذي سيكون مرآة تعكس همومه اليومية، وتشكو آلامه الدفينة وتسلط الضوء على حاجياته الأساسية، فما علينا إلا أن نواكب عجلة هذا الحراك الكبير بصناعة سينمائية متقنه تقدّر ثورة الشعب، وتؤرخ لها، وتحجز لها حيزاً كبيراً في هذه الصناعة الفنية. ولا يخفى على كثير منكم أيها السادة أن هذه الظروف والأسباب هي أدوات لإعادة صياغة السينما العربية ليكون فناً رائداً، ويستعيد مكانته في وعي الشعوب العربية، من خلال ما نؤرخ ونوثق ونحلل للأجيال القادمة من هذه الأحداث المفصلية في تاريخ أمتنا ونستخلص منها العبر والنتائج .
ينبغي أن نتذكر ونجدد عهدنا-نحن الفنانين- أننا نسعى أن نخلق من هذه الصنعة ملاذاً آمناً للهاربين من لظى العراك السياسي و صلوف الحياة القاسية وهموم الصراعات والمؤامرات من خلال شاشة صادقة تلامس عمق هذه المعاناة
أيها السيدات والسادة
دعونا نأخذ صوراً من واقع هذه الأيام، التي كانت مثل الطوفان أغرق كثيراً من السينمائيين، فضلاً عن السياسيين، بل كانت صادمة لمسارهم فلم يستفيقوا من الصدمة إلى الآن، كان رائدُ هذا الحراك الشباب، الذي تخطى الكبار بشتى أفكارهم ومبادئهم، في ظروف غاب فيها دور السينما، والتي لم يكن لها دور من قبل في صناعة جيل مستعد لمواجهة هذا الحراك الكبير، فكانت نتيجة طبيعة أن نرى أن السينما لم تواكب هذه الأحداث ولم تقدم وقوداً لهذه الثورات، بيد أن الشباب استطاع أن يعدّ أدواته من تقنية الاتصالات وثورة الانترنت، فانتصرت انتصاراً ساحقاً على السينما.
لقد استعاض الشباب بالشاشة الصغيرة ليكوّن معارفه اليومية، ولجأ إلى "الفيس بوك" و"تويتور" والصحف اليومية لتكون سلاحه الفعّال، فكانت المعبّر الأول عن أحاسيسهم ومشاعرهم وآلامهم وآمالها ونشر وعيها بين صفوفها، فكانت النتيجة الطبيعية أن تنحى دور السينما في وعيهم وفي نشاطهم فضلاً عن تقصيرها من قبل، فلم يكن لها دور في هذه المعركة
فمثالنا الحي الذي يشهده التاريخ قبل الفن، أنّ الشباب جاد عبر وسائله الخاصة بكمّ كبير من مادة إعلامية عفوية، كان لها تأثير فاعل وواسع النطاق، لما حمل من جرأة شهدناها بأعيننا، وفهمناها بضمائرنا. كانت أحداث مصر في ميدان التحرير هي الأرض الذي سجلت أحداث هذا الفلم الحقيقي دون أن تتدخل براعة المخرجين السينمائيين، لقد كانت كاميراتهم البسيطة وأدواتهم المتواضعة توثيقاً فنياً حقيقياً، رغم ما عانوه من جروح وسجن واعتقال وموت، لكنهم قدموا مادة غنية عن الحدث كانت وقوداً للثورة، وتجاوزوا بذلك السينمائيين الذي كانوا متأخرين عن الركب، بالرغم من أن مصر هي البلد المنتج الأول في العالم العربي، وبعد الاستفاقة من الصدمة نزل السينمائيون إلى ميدان التحرير مسجلين حضورهم المتواضع لكن كاميراتهم لم تسجل بعد، ناهيك عن أن البعض كان معادياً للثورة واعتبرها ضرباً من ضروب الفوضى.
وهاك مثال آخر من بلدي تونس، لقد سجلت لهم الأحداث حضوراً خجلاً متأخراً، شمل السينمائيين والإعلاميين عموماً، وفضل كثير منهم المراقبة وإلى أي الفريقين ستكون الغلبة، لكن الشباب أيضاً تجاوزهم بكثير، فوثقوا وصوروا وسجلوا وبعضهم حاز الجوائز اليوم، في الوقت الذي غاب فيه الدور السينمائي في تعزيز الدور الشعبي في رسم نهضته، حتى أن بعض السينمائيين في غمرة الأحداث الساخنة آثر العمل على الأفلام الروائية!
هذه أمثلة واقعية سجلت اتهاماً بالغ الخطوة في حق دور السينما العربية إبّان هذه الأحداث، حتى تأكدت لدي فكرة أن السينما العربية عاشت التاريخ لكنها لم تسجله، أو أن السينمائيين كانوا قد نسوا الغطاء على عدسات كاميراتهم!!، فبقيت الشاشة السينمائية سوادء؟! ضمن أحداث واضحة المعالم وساطعة الإضاءة.
أيها السيدات والسادة:
هذا المشهد يجعلنا نفكر أنه لابد للسينما العربية من ثورة على نفسها حتى تلحق بثورة الشعوب وتستعيد دورها في وعيهم وضمائرهم، فهذه فرصة كبيرة لها أن تغيير من واقعها وموازينها، فلتكن ثورة للانتقال من مواضيع الإثارة إلى واقع الشعوب، ولنهتم بصناعة المثل الأعلى في أوطاننا لا في مبالغات هوليود، وأن مبدأ السينما المناضلة أهم من مبدأ يصنعه المال وأهله الذين يملون شروطهم وأهواءهم، وأن نجعل من السينما منبراً للدفاع عن قضايا شعوبنا والدفاع عن قيمها التي هي أولى من الدفاع عن قيم الغرب، وأن القضية الفلسطينية أحق وأجدر بالطرح من قضيه إيرلندا وغيرها من تاريخ الغرب.
إذن فليكن طموحنا يسعى إلى سينما حرّة مستقلة، لا تهيمن عليها أي سلطة إلا في حدود التشجيع المعنوي والدعم المادي، ولننزع الثوب القديم الذي لبسته السينما العربية والذي وضعها ل في خدمة الأنظمة والحكومات، فغازلتها وداهنت لها وصنعت لها قناعاً كاذباً من الحقائق، بغاية أن تعتاش من بعض المعونات، كغيرها من وسائل الاعلام، فساهمت بهذه العلاقة المحرمة في إذكاء نار هذه الثورات. فليكن سعينا إلى إعادة النظر في صناعة سينمائية تتناول الحياة الاجتماعية الراهنة وتقدم المتنفس وتعكس روح العصر الراهن، لأننا نعتقد كسنمائيين، أن السينما أقدر في التعبير مما يعبر عنه السياسي والإعلامي والمؤرخ والأديب والعالم والداعية. وأنها من أهم عوامل تشكيل وعينا المعرفي والثقافي، فالصورة أسرع من الكلمة، فهي أداتنا فلا نجعلها أكثر بطئاً من غيرها، فنحن في حركة تاريخية مفصلية أهدتنا مادة دسمة لاستعادة الدور الريادي للسينما فتعود للتصادق مع الانسان العربي الذي قاطعها منذ زمن لأنها لم تعبر عن حاجاته الأسياسية، إذن هذه هي الفرصة الذهبية لنعيد مجد هذه الصنعة الفنية
أيها السيدات والسادة:
قد يرى البعض أني مجحف في حق السينما العربية، و لكن لنعترف أننا قصرنا بالقيام بالدور المنوط بعهدتنا في مثل هذه الظروف، وأننا كنا في معزل عن الأحداث الجليلة التي مرت بها الأمة و بقينا خارج الإطار الحقيقي للتاريخ، لكن الوقت والفرصة أمامنا، ولنعي أن الثورات العربية وضعت السينمائيين العرب أمام رهان الغوص في أعماق الأبعاد السياسية، و الإنسانية و الإيديولوجية لهذه الثورات، و تحليلها و المساهمة في إزهار ربيع هذه الثورات، لأننا لم نتخطّ بعد شتاءها القارص.
دعونا نفتح الستار عن شاشة تنقلنا إلى عالم صممته أفكارنا وصورته كاميراتنا وأنتجته أدواتنا ليعيش في ضمير الإنسان العربي فتغدو نبراساً له ليتنقل من عالم الوهن والهمّ إلى عالم الحركة والتقدم نحو نهضة إنسانية رائدة، ولنتذكر دائماً أنه:
عندما يقسو الإنسان على أخيه الإنسان فإننا نجد في السينما فكرة للجمه وإنصاف المظلوم من الظالم.
وعندما يحزن الإنسان فإننا نجد في السينما طريقة لاستخلاص الحكمة وإدخال السعادة وإجلاء الحزن
وعندما يفشل الإنسان فإننا نجد في السينما ما يحمي الآخرين من الفشل
وأنه عندما ينجح الإنسان فإننا نجد في السينما ما يعطيه حقه بل ويمنح الآخرين الرغبة العارمة في تقليد الناجحين
إذن السينما واقع حقيقي وليس مجرد صورة متحركة، فحري بنا أن تكون ثورتنا الفنية على واقع السينما لتحاكي واقع الإنسان، لأن المادة الأساسية في هذا الفن هو الإنسان