لا شك أن السينما أو مشاهدة الافلام وما ماثلها من أدوات التوجيه والترفيه لها دور تربوي تثقيفي مهم، وشانها – كما يقول فقهاء العصر – شأن كل أداة من أدوات التوجيه والترفيه وهي أيضا سيف ذو حدين، إن استعملت في الخير فهي معول بناء وإن استعملت في الشر فهي معول هدم، فالحكم في شأنها يكون بحسب ما تؤديه وتقوم به. وبالتالي فالسينما فن جماهيري خطير، وخطورته تتركز في أن المشاهد يجلس في قاعة مظلمة لعدد من الساعات، مسلوب الإرادة، مقتنعاً بأن الفيلم يخاطبه وحده، ويسيطر على وجوده، وبالتالي يسهل على صانعي الفيلم بث الأفكار والمعتقدات وطرق العيش التي يريدون الترويج لها في وجدانه.. ومن ناحية أخرى تستخدم السينما في كشف عيوب المجتمع، ومحاولة الإيحاء بأن في القضاء على هذه العيوب تقدماً لهذا المجتمع، والسينما طبعا أنواع وأشكال، فهناك السينما الوثائقية التي تناقش المؤرخين في تسجيل وقائع التاريخ، وأشهر الحوادث والحروب.. وهناك السينما الدعائية التي تكرس نفسها للدعوة إلى اتباع منهج أونظام من الأنظمة.. كما أن هناك الأفلام الروائية وهذه أخطر الأنواع لأنها- ربما- تضم بين جنباتها كل أنواع الرذيلة كما هو شائع في المسلسلات الإباحية المعروفة!


و أقوى دولة في العصر اليوم أمريكا، فهمت لغز وسيلة التواصل هذه واستغلتها أحسن استغلال، وللتاريخ فقط وتحديدا في ثلاثينيات القرن الماضي الذي شهد اجتياح القوى العظمى لأوطان المسلمين، زار الرئيس الأمريكي روزفلت أستوديوهات السينما في هوليود، واجتمع بصناّعها، وقال لهم: (إذا أردتم لأمريكا الرفعة والمجد فاهتموا بالفيلم الأمريكي.. ) وكان ذلك . وأصبح الفيلم الأمريكي أعظم فيلم في العالم من ناحية الصنعة، وسفيراً للولايات المتحدة الأمريكية إلى العالم أجمع، وأصبح العالم كله يرى في الفيلم الأمريكي أملاً يود لو يصل- في أفلامه التي يصنعها – إلى مرتبته.. واستخدمته أمريكا أداة طيعة لبث أفكارها في وجدان وضمير الشعوب، والتأثير عليها في تخدير الشعوب، وصرفها عن أمانيها، وذلك عن طريق إغراقها في دوامة من أفلام الجنس والخلاعة والعنف، لدرجة أن وصل الأمر إلى صناعة أفلام للشعوب المتخلفة والمقهورة لا يمكن عرضها داخل الولايات المتحدة الأمريكية وإلاّ عد ذلك استهانة بالشعب الأمريكي المتقدم!


ومن المؤكد أن كثيراً من المتخصصين من عالمنا الإسلامي في فن السينما سيقولون:”إن السينما هي تعبير عن حياة الشعوب التي تصنعها، وطالما حياتنا بعيدة عن الإسلام فستظل أفلامنا هكذا..” ولكن الرد –حسب أصحاب الاختصاص-لا بد أن يكون كالآتي: “إن صناعة الفيلم الإسلامي لن تكون للتصوير وإنما أيضاً لينهضوا من سباتهم الذي طال استمراؤهم له..” ولكن الجدل يتوقف لأنه لم يكن هناك بديل للترويح عن الناس! فضلاً عن ضآلة عدد الأفلام المنتجة في الدول العربية ومجموعها لا يمكن أن يصل إلى عدد الأفلام التي تنتجها دولة الهند أو فرنسا أو إيطاليا مثلاً!


ونحن نريد لإسلامنا أن ينتشر في العالم، وإحدى وسائلنا الدعوية لا بد أن يكون الفيلم، والفيلم الحقيقي النظيف الفاعل، جدير بفرض نفسه في الساحة وبجعلنا نحن خاصة في الغرب نتيه فخراً بتراثنا وحاضرنا ونأمل في مستقبلنا .بهذا الحلم وهذه الرغبة حضرت خصيصا لمشاهدة فيلم “صراع” وهو حقا كذلك، بحيث عشنا لنحو ساعتين ملحمة وجع وألم وذكريات قاسية لكنها حقيقية من تاريخ تونس الشقيقة، أعادنا الفيلم لنهاية حقبة الثمانينيات وعشرية التسعينيات وحتى قيام ثورة الربيع التونسي الأخيرة.. أعادنا لمرحلة سوداء في تاريخ تونس الاستغلال.. مرحلة القهر والقمع والانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان.. مرحلة قهر وإذلال شعب برمته، بل قل مرحلة تحطيم الإنسان. ولتفاصيل أكثر، كان لنا لقاء مع الأخ الأستاذ منصف بربوش مخرج الفيلم، الذي حضر خصيصا من كندا للترويج لفيلمه الجديد، وأيضا للترويح على جاليتنا المسلمة في أوروبا، لأن فيلمه يعالج قضايا هامة في حياة المهجرين قصرا، والمشردين والمظلومين، وكان لنا معه هذا الحوار:


1- مرحبا بكم أستاذ منصف في سويسرا، بداية ما هي الاقدار التي جعلتك تنحو نحو العمل السينمائي علما أنك من أصول عربية مسلمة، علما أنه لا الحركات الاسلامية تحبذ ذلك ولا العائلات المحافظة تشجع على المغامرة في شواطئه ناهيك عن امتهانه ؟


صحيح ما تقوله أستاذ مصطفى، أنا تربيت منذ نعومة أظفاري ضمن عائلة محافظة وكانت لأخوالي قاعة سينما اسمها “الحمراء” على نهج الجزيرة بتونس العاصمة وكانت خالتي رحمها الله من عائلة الدغري – المعروفة في الشرق الجزائري أثناء الاستعمار-  وتسكن فوق القاعة ودأبدت من يومها على مشاهدة كل الافلام التي كانت تعرض وأتذكر منها “فجر الإسلام” ،”واسلاماه”، “صلاح الدين الأيوب”، “عنتر وعبلة” وغيرهم.. وكم كنت انتبه الى أشياء بسيطة في تلك السن، سن الطفولة، ولكنها تثير عندي تساؤلات في ذلك الوقت مثل أني رأيت بأم عيني مثلا في الفيلم السابق فريد شوقي قتل ولكنني أراه مجددا في فيلم حديث وهو حي يرزق، وهي طبعا خدعة وتمثيل لا غير، فكيف تمت هذه الخدعة وطريقة انجازها وغير ذلك من التساؤلات التي جعلت عندي حب معرفة أسرار هذا الفن. ولما كبرت واشتد عودي طلبت من والدي أن أدرس هذا الفن وكان رحمه الله أستاذا زيتونيا ووجهني لدراسة الاقتصاد والتجارة ولكن حبي للسينما ازاداد لما انتقلت لأدرس في بلجيكيا، وتيقنت أن بلادنا تفتقد لهذا العلم، علم الاتصال والتأثير بالسينما فلما اتممت دراستي بعثت لوالدي الشهادة التي كان ينتظرها مني وقلت له بأنه آن الأوان لأدرس ما أحب.. فقهرني وحثني على العدول عن ذلك المسلك، زاعما أن العمل السينمائي لا يتماشى مع ابناء العائلات المحترمة.. فأكدت له بأن فن السينما هو الذي يأثر في الجماهير العريضة ويأثر على الفكر والمواقف وسبل اختيار الذوق وحتى التجارة، فقط علينا أن نعرف كيف نستغل هذا الفن دون أن نقع في المحظور لا قدر الله.


فلما رأى مني اصرارا ، دعى الله لي بالتوفيق وكانت لي صداقة مع وكيل وزارة الثقافة في ذلك الوقت وهو الأخ مرسي سعد الدين وكان آنذاك وزير الثقافة في مصر الأستاذ يوسف السباعي رحمه الله وشجعاني على المضي قدما والمشاركة في مسابقة الدخول للمعهد العالي للسينما بالقاهرة ونجحت بامتياز وبدأت الدراسة وعاهدت نفسي بأن تكون أعمالي لنصرة الإنسان والقضية الفلسطينية.


2- كيف بدأت مشوارك وأين، وهل لكم أن تعرفوا القارئ العربي بأهمها؟


مشواري بدأ بفيلم عن قصة للدكتور يوسف ادريس “فوق حدود العقل” بطولة صلاح رشوان وهالة فاخر وتدور أحداثها في مصر بعد حرب 1973وكان ذلك أول أعمالي الروائية وعند رجوعي لتونس قمت بعدة أعمال لحساب شركات خاصة وشاركت في عمل حلقات لمنظمة المؤتمر الاسلامي عن طريق أفلام افريقيا للمرحوم ابراهيم باباي وفي سنة 1982 أخرجت فيلما للتلفزيون التونسي عن سيناريو للسيد علي بدرخان، عنوانه “الصمود”، وهو انتاج مشترك بين التلفزة التونسية ومنظمة التحرير الفلسطينية عن محنة الفلسطينيين بلبنان إبان الاجتياح الصهيوني للبنان وفيلما آخر اسمه “حصار بيروت” وتوالت هكذا اعمالي بين قضايا حقوق الانسان والقضية الفلسطينية فكان فيلم “تونس87 ” و “نطق الحجر” عن الانتفاضة الأولى بفلسطين سنة 1987 و”الشهادة” وغيرهم، كما قمت بعد مغادرتي لتونس بإخراج فيلم “محاكمة تونس” 1992 الذي شارك بالملتقى الـ 11 للسينما الكبيكية بكندا و واصلت عملي بالتلفزة بمنتريال الكندية.


3- أظن أنك التونسي الوحيد الذي تخرجت في دفعتك، من المعهد العالي للسينما بمصر بهذا الفيلم أي ” فوق حدود العقل”، فكيف كانت تجربة هذا العمل الأولى من نوعها، ولماذا لم يروج لها في تونس حينها كما ينبغي؟


نعم كنت أول متخرج تونسي من المعهد العالي للسينما بالقاهرة تلاني المخرج التونسي المعروف محمد الوحيشي ثم فتحي الخراط رئيس قسم السينما الحالي بوزارة الثقافة وعند رجوعي لتونس في سنة 1979 اهتمت الصحف بعملي وروجت له ولكن العمل كان من نوع الافلام القصيرة وملك للهيئة العامة للسينما والمسرح والموسيقى وكنت شاركت به في مهرجان الافلام القصيرة بالقاهرة.


4- تونس سمحت لك بالعمل بحرية في ميدان الفن السابع سنوات وسنوات وأصبحت لك خبرة دولية، فلماذا تركت بلدك وفضلت الهجرة لكندا؟


في الحقيقة في تونس المعاملة تختلف من وقت الى آخر حسب افكارك أو أيدولوجيتك والخط الذي يسير فيه العمل والجو العام للبلاد، فأفلامي الأولى مثلا لما كانت لها منحى قومي قبلت بشكل عادي (فيلم الصمود) وفي نفس الوضع (فلسطين) ، أما (فيلم ونطق الحجر) عن الانتفاضة لأن له نفس إسلامي فهنا بدأت المتاعب وبدأ شد الخناق فدخلت في فترة العمل السري وبدأت في عمل سلسلة من الأفلام باسم مستعار، كنت حينها أوقع أعمالي باسم “محمد آمين” فأخرجت فيلم “اليس الصبح بقريب” وفيلم”أكاذيب وحقائق” الخ…الى أن تم اعتقالي من طرف البوليس بمطار تونس قرطاج يوم 24 أفريل 1990 وتم التحقيق معي عن افلامي وعلاقاتي مع الحركة الاسلامية ومنظمة التحرير الفلسطينية الى أن نجاني الله رب العالمين من القوم الظالمين، ففررت الى الله ولازلت الى اليوم مقطوع الجذور عائلتي تعيش بكندا منذ ربع قرن وأنا دائم التنقل بينها وبين بلاد العالم ووطني تونس.


5- ما هي الأمور التي جعلتك تمكث بكندا منذ 1990 إلى اليوم، وما هي الأعمال التي أنجزتها في هجرتك الطويلة، وهل أنت مرتاح لتجربتك في الغرب؟


لقد انحنيت لقدر الله وما قمت به من أعمال سبب لي الكثير من المتاعب والمشاكل قمت بها عن قناعة تامة، فأنا منذ أن رجعت من هجرتي الأولى وقد دامت أربعة عشر عاما في دولتي بلجيكيا ومصر، لاحظت حجم الانتهاكات التي يقوم بها نظام بورقيبة ومن بعده بن علي تجاه الشعب التونسي، والجميع يعلم مدى تأثير قمع السلطة على الشعوب ونتائج ذلك على نهضتها وانعتاقها فمنذ الدولة الأموية مرورا بالدولة العباسية الى ما يسمى بالدولة الحديثة كان لتلك الانتهاكات خسائر جسيمة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والنفسية والثقافية والدينية وغيرها وكل هذه السلط ساهمت في انحطاط العالم العربي والاسلامي باعتدائها على حرمات الناس فتأخر هذا الانسان على كل المستويات واصبح هاجسه هو الأمن ولقمة العيش والفرار من بطش الحاكم (السلطة) فخسرت تونس الكثير من أبنائها الذين زج بهم في السجون من كافة التوجهات مع العلم أن الاسلاميون هم من دفعوا الثمن الأغلى فكان ما يقارب الـ 34 ألف نسمة يقبعون في غياهب السجون وما يقارب الـ 14 ألف إقامة جبرية وادارية والآلاف من الممنوعين من السفر والآلاف من الهجرين قصرا، زد عن ذلك اهاليهم وعشيرتهم الأقربون ومن لف لفهم من نساء ورجال، وحتى الاطفال تم التضييق عليهم ومحاصرتهم في قوتهم وحرياتهم وأمنهم.. رأيت رجالا ونساء نادرا ما رأيت أمثالهم في حياتي، أناس كلهم طيبة أخلاق ووطنية وانسانية خسرتهم بلادنا، بل خسرت تونس كل شيء بل حتى غير المسيسين وغير الناشطين منهم اختنقوا من الجو القاتم والقاتل الذي أصبحت عليه تونس فاختاروا قوارب الموت أو هاجروا طواعية بدون رجعة وبقوا هناك..  فالسعادة عند اغلبهم هي وراء البحر فهنالك بقيت اغلب عقول تونس يستفيد منها الغير بعد ان دفع الشعب التونسي ثمن تعليمهم في الداخل والآن يستفيد منهم الخارج، فخسرت تونس أجيالا ولم يتطور الكثير منهم وأصبح جزء منهم عاطلا عن العطاء أو مريضا، ومات منهم الكثير تحت التعذيب ومن جراء الامراض الجسدية والنفسية – ومثال ذلك المرحوم الدكتور منصف بن سالم الذي كتبتم عن معاناته في أسبوعية “البصائر” منذ أسابيع فقط.. هكذا خسرت تونس كل شيء وعلى كافة الأصعدة.. وأنا أيضا من هؤلاء الضحايا، لم تكن هجرتي اختيارية لا الأولى ولا الثانية الا أني سعيت أن أعمل جاهدا من أجل الجالية ومن أجل وطني تونس ومن أجل عائلتي فقمت بالعمل في قنوات تلفزية وأخرجت برامج منها “آفاق كيبك” و”نقطة التقاء” وقمت بالمشاركة في انشاء راديو “سلام منتريال” مع اخوة من الجزائر ومصر و”المنتدى الاسلامي الكندي” الذي هو بمثابة الهيئة المدافعة على حقوق المسلمين وكذلك مدرسة “النور” التي لا زالت لحد الآن تدرس لأبناء الجالية العربية والمسلمة غيرها من المنظمات كل هذه المشاريع تمنيت لو انجزتها كذلك في بلدي (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون).


6- عدت لتونس مع الثورة وسقوط نظام بن علي، كيف كانت أحاسيسك وأنت تدخل بلدك لأول مرة بعد تهجير قصري دام عقود؟


والله،حقيقة لا توصف.. هي خليط من الأمل والألم.. كيف هي بلدي بعد كل هذه السنوات من الهجرة؟ كيف حال أهلي و معارفي؟ وهل ما زلت أتذكر ملامح البعض منهم؟ ومن مات منهم ومن بقى على قيد الحياة؟.. المهم، عند نزولي بمطار تونس قرطاج سجدت لله رب العالمين وعند وقوفي أمام الشرطة تذكرت تلك الضربات على الحسوب يوم أن مررت بذلك الموقف يوم 24 أفريل 1990وفعلا تم منادات البوليس حتى في تلك اللحظات التي ينتظرني فيها في الخارج جمع غفير من الأهل والأصدقاء وأناس كثر، وجاء المسؤول الأمني بالمطار ورحب بي فأحسست بأن أمورا تغيرت فعلا وأجلسني في مكتبه وكان ذلك اليوم يوم جمعة موافق لـ17جوان2011 وبعد تدخل السيد رئيس محكمة الاستئناف ووكيل الجمهورية بشكل سريع، أذن لي بالدخول فوجدت أمة من الناس فاغرورقت عيناي بالدمع عندما رأيت أخوة لم أراهم منذ أكثر من 21 سنة ورأيت أبناء لإخوتي سمعت عنهم ولم أراهم تخطوا الـ 20سنة ورأيت أمي كبرت وانحنى ظهرها ووهنت.. واشتعل الشيب في رؤوس اصدقاء ضربتهم سنين الجمر فكبروا قبل الأوان.. إلا ان الذي ابكاني الأكثر في ذلك اليوم هو ابنتي نور الهدى التي عجبت لكبر عائلتنا وكثرة السائلين عليها والمتوددين لها فهي التي قالت لي يوم ان هرب الطاغية من تونس في بيتنا بمونتريال امام اخوتها وهي تبكي (بابا انت حب تونس وانا حب كندا ..انت ترجع بلدك انا أبقى احب كندا) فتيقنت يومها أن المخلوع بن على انتصر علينا حاكما وهاربا ففي ذلك الوقت أيقنت أن جذوري اجتثت من تربتها.


7- فيلمك الروائي الجديد بعنوان “صراع” الذي عرض أخيرا في دول أوروبية، وشهدناه يوم أمس، يتطرق لمرحلة من مراحل تاريخ القمع في تونس الاستقلال، بحيث تناول الحريات والسجن السياسي والواقع الأمني البوليسي..  بإيجاز لو تفضلت بملخص للفيلم في نقاط؟


«صراع» مدته ساعة و52 دقيقة، السيناريو لحسين محنوش يقوم بأدواره كل من هشام رستم وصالح الجدي ولمياء عمري ومجموعة من الوجوه الشابة التي يراهن المخرج على حضورها في الفيلم.
تنطلق أحداث الشريط بتاريخ 7 نوفمبر 1987 عندما علم الشعب التونسي بحصول التغيير الذي طالما انتظره والذي سيعيد الأمل قويا في نفوس التوانسة. لكن في ديسمبر 1990 وضع المواطنون حدا لأفكارهم فكل ما حدث لم يكن سوى سرابا حيث لم يكونوا في الحقيقة سوى أحرار مع ايقاف التنفيذ.. تتأرجح حياتهم بين السجن والتعذيب والإبعاد القسري والإقامة الجبرية.. وأشكال أخرى من الممارسات التي عطلت حياتهم ورمت بها في يأس مطبق، وبأساليب مباشرة أو غير مباشرة تم طرد المئات من المواطنين من أماكن شغلهم وتجويعهم ومنعهم من السفر.


الشريط يستعرض حياة الأستاذ وزوجته مريم وابنائه حيث تعتبر حياتهم عنوانا للعذاب مثلهم مثل آلاف المواطنين.. نقابيون وإسلاميون ويساريون وجدوا أنفسهم صفا واحدا رافعين شعار التحدي وتحقيق شيء غير مسبوق، وذلك لا يكون إلا بالوقوف والمقاومة وعدم الخضوع.. الأطفال الذين كانوا أولى ضحايا هذا الاستبداد ماديا ومعنويا والذي أثر على مجرى حياتهم اليومية شعروا أن شيئا ما يحدث ليس له تفسير محدد. كل أطياف الشعب ضحايا وأبطال لملموا جراحهم وخرجوا كما لو أنهم على موعد ذات يوم 14 جانفي 2011 مطالبين بإسقاط النظام ورحيل بن علي..حيث طويت صفحة من تاريخ تونس وفتحت أخرى جديدة فإذا بالتونسيين يمنحون الحلم لشعوب أخرى. هذه باختصار أحداث فيلم «صراع» .. علما أن فكرة الفيلم كانت تراودني منذ جويلية 1990 عندما كنت في الصحراء الليبية في طريقي الى منافي القصري..


8- لكن يبدو من خلال الفيلم أنكم أخترتم لغة جادة تأخذ بالحسبان الهوية العربية الإسلامية، ووجوه تونسية قديمة مجربة كهشام رستم وصالح الجدي و ووجوه نسوية حديثة كلمياء العمري “المحجبة” وأحلام حواص، كيف تعاملت مع الممثلين عموما وهل قبلوا العمل في فيلم مخرجه له توجهات أو خلفية إسلامية ؟


اللغة السينمائية تبقي دائما لغة سينمائية فهي التقنيات وحركة الكاميرا والقطع الخ .. لكن الأسلوب وطريقة تناول الموضوع هي التي قد تفرق بين الفيلم والآخر فنحن بدأنا نؤسس الى “السينما التي نريد” نريدها لا تحلل حراما ولا تحرم حلالا، هاته السينما نريدها تعالج قضايا الأمة وقريبة من الشعب وهمومه، نريدها للكبير والصغير تجمع العائلة امام الشاشة بدون خجل ويشارك الجميع في النقاش وابداء الرأي وفيلم «صراع» أرجع الكثير من العائلات للسينما وسال حبر كثير حوله مثلما لم يحصل من قبل مطلقا، وفجر فعلا نقاشا وتساؤلات لم تحدث من قبل وهذا الذي نريده ..حوار حول خياراتنا ومناهجنا في التربية والاعلام والثقافة..


أما فيما يخص صعوبة العمل مع الفنانين والفنيين فاني لا أدعي أني من طينة خاصة أو متميز على غيري من البشر فاني مسلم عربي مثل الآخرين وهذا ما علمنا اياه الدين كما جاء في قوله تعالى ﴿..هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ..﴾ وإن دل ذلك على شيء انما يدل على ان الانتماءات والحزبية والتعصب لا تخدم الأمة بل من الممكن ان يكون لك مشروع وتعمل من اجله دون انتماء، والدليل أننا عملنا هذا العمل سويا رغم كل الاختلافات السياسية والايدلوجية والفكرية ونجحنا سويا في انجاز عمل في ظروف طيبة وتوافق تام وشهد الكثير بأن الجو الذي تم اثناء التصوير لم يراه الكثرين منذ أمد طويل وكانت تجربة ناجحة تدل على ان التونسيين رغم اختلافاتهم السياسية فهم قادرون على العمل سويا في كل المجالات.


9- لماذا هذا العنوان «صراع» ..وماذا يختزن، هل هو تصفية حسابات بين الحركة الاسلامية التونسية والنظام البائد، كما يقول بعض “النقاد” في تونس، أم ؟


«صراع» انما هو صراع التونسيون مع السلطة المستبدة، «صراع» هو أيضا الثبات على المبدأ وعلى النهج النضالي من اجل الحرية والحقوق وصراع من أجل التوافق والتعاون من أجل وطن لا يعتدى فيه على الحرمة الجسدية والفكرية للإنسان وليس هو من قبيل الحسابات ولا شيء آخر.. فالذين أثرنا قضيتهم هم تونسيون منتمون الى عدة فئات، حق عام، رجال أعمال، نقابيين، يساريين و..واسلاميين وهؤلاء هم الذين دفعوا أغلى ثمن بامتياز، في الفترة الممتدة ما بين 7نوفمبر1987و14جانفي2011 فالتونسيون جميعهم دفعوا ثمن حريتهم وحصدوا سويا ريع نضالاتهم إبان الثورة المباركة وسيبهرون العالم ان شاء الله غدا من أجل تونس جديدة يتعايش فيها الجميع.


10- ما هي التحديات التي واجهتكم لإنجاز هذا الفيلم، وماذا عن الدعم المالي من طرف الدولة أو الخواص لمثل عملكم هذا؟


أي عمل فني لا يخلو دائما من العوائق وخاصة لما يكون العمل يغرد خارج السرب، فأنا أخترت منهجي ومواضيعي وعلي أن اقبل تبعات ذلك فقد حربت منذ اليوم الأول من أجل الا يخرج هذا العمل للجماهير وخاصة قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية، فالفيلم يقلق الكثير ويتكلم على الانتخابات وتزوير الانتخابات في وقت دقيق ويزعج خاصة أولئك الذين اخرجتهم الثورة من الباب الكبير وأرادوا الرجوع من الشباك الضيق وخاصة أنهم شاركوا في الانتهاكات الواسعة التي مورست على الشعب الأعزل.


أما الشق الثاني من السؤال، فقد تم تضييع ملف طلب التمويل – حسب ما قيل لي- ولم اتحصل على اي دعم الا ان السيد وكيل السينما بالوزارة وعدني عند الاجتماع به، بأن الوزير الجديد سينظر مجددا في طلب التمويل وانا انتظر الوفاء بهذا الوعد.


11- كيف تقيم رسالة عملك هذا الذي لم يروج له كما هو الحال لبعض الأعمال العربية والغربية حتى في بلدك تونس؟


و الله كنت منتظر ذلك الصد والتعتيم ولم اكن انتظر هذا النجاح، وخاصة في ظروف هذا الزلزال الذي هز كيان الأمة كلها الا وهو الثورات العربية وزيادة عن ذلك أنت تريد ان تدافع عن أناس هم في اغلب الدول ينظر لهم انهم اعداء للحرية واذا بك تبين للعالم انه مورس عليهم كل انواع الاعتداء على الحريات والحقوق من طرف المتشدقين بالحرية فذلك محبط للكثير وخاصة الذين طبلوا وزمروا لعقود لأنظمة دكتاتورية، ضف لذلك فان الثورة لها أعداء يهمهم طمس الحقائق فهم يخشون المحاسبة، وليس لهم الشجاعة من اجل الاعتراف بما اقترفوه في حق الشعب ولا يريدون ارجاع الحقوق لأصحابها مثلهم مثل الاستعمار الذي الى يومنا هذا لا يريد الاعتذار عن جرائمه في حق التونسيين والجزائريين وغيرهم وترون اليوم العالم كله بما فيهم تونس مستعدون للترويج لفيلم مثل فيلم “تومبكتوا” ليبين للناس الخطر الاسلامي –حسب زعمهم- لكنهم غير مستعدين للدفاع عن الاسلاميين في تونس لما اصابهم من انتهاكات جسيمة. فالصراع لا يزال قائما من اجل الحق…


12- وهل تنوي عرضه في الشقيقة الجزائر ودول عربية أخرى؟


لما طلب أحد المسؤولين لأحد المشرفين الجزائريين على مهرجان عربي هل تستضيفون فيلم «صراع» رد عليه المسؤول الوزاري “تحب تعملنا واحد (الريفولسيون) أي الثورة بفيلم «صراع» هذا”، ردة فعل تفسر كل شيء، لذلك لا أتصور اليوم دولة مثل الإمارات أو مصر ممكن أن يعرض فيها مثل هذا الفيلم والانتهاكات على فئة معينة لازالت على أشدها وقد تقبله بعض الدول الأخرى.


13- أنت متابع للسينما العربية عموما بغثها وسمينها، لماذا السينما الجزائرية -في نظرك- لم تنجب منذ عقود أعمال جادة ماعدا بعض الأفلام الثورية، أين الخلل، هل هو في النص أم الممثلين أم في المال، أم ؟


السينما الجزائرية كانت الرائدة في القطر المغاربي فــــ”رياح الاوراس” “ومعركة الجزائر” و “علي لابوانت” وافلام لخضر حمينا وغيرهم اسسوا لعمل وطني جاد وأفسر تعثر السينما الجزائرية بعد انطلاقتها القوية إبان الاستقلال وهنا يكمن تدخل الدولة في الانتاج السينمائي من ناحية الدعم المادي والمعنوي لهذا القطاع الذي لا يعتبر قطاع انتاجي كما هو الحال لدى الدول التي لها صناعة وسياسات سينمائية وسأفسر ذلك لاحقا وكذلك بسبب ما حصل في الجزائر بعد 1992 وهذا نتيجة حتمية فالثقافة كذلك تأثرت بالوضع السائد أنذاك وهي ليست في معزل عن الوضع السياسي والاجتماعي الخ..كما أن هذا أثر على قطاع السينما فتأخر الانتاج والتسويق وحتى دور السينما أغلق منها الكثير ولاحظت ذلك جليا عند زيارتي الأخيرة لقسنطينة، كيف تم اغلاق عدة قاعات مشهورة زيادة على أن عدم التواصل في الانتاج والانقطاع عن الانتاج لمدة طويلة يزيد من تغيير نوعية الاستهلاك لدى المتلقي فيلجأ لوسائط جديدة.


اضافة إلى أن جل الدول العربية ليس لها سياسات توزيع لمنتوجها الثقافي فبحيث أن القطاع ليس انتاجي بل هو رهين للدعم ويتدخل فيه السياسي في وقت أن أمريكا لها سياسات حماية لمنتوجها الثقافي وتشترط على أغلب الدول شراء هذا المنتوج ضمن الاتفاقات المبرمة ولذا نرى أن فيلما أمريكيا ينتج بمبلغ 30 مليون دينار يباع ب500 مليون وأكثر وينتشر ويدر أرباح طائلة ينتعش من خلالها القطاع، يستحيل لمنتج لوحده القيام بذلك للتكلفة الباهظة.


14- ماهي مشاريعكم المستقبلية وما هي التحديات التي  قد تواجهكم؟


موضوع فيلمي القادم ان شاء الله هو السيدة “بشيرة بن مراد” رئيسة الاتحاد النسائي الاسلامي التونسي ورائدة النهضة النسائية في تونس والتي قضت حياتها تحت الإقامة الجبرية مدة 38 سنة أي منذ 1955 الى ان توفت سنة 1993رحمها الله وهي التي طالبت بحق المرأة في التعلم وحقها في المشاركة في الحياة السياسية وقامت بتجميع المال للطلبة المغاربة الذين درسوا في الغرب قبل الاستقلال. اما التحديات فهي كثيرة منها كاتب السيناريو السينمائي الجيد والتمويل والتصدي لمن يريدون تزوير الحقائق والتاريخ.


15- أمور أخرى لم نطرحها عليكم، وتودون إضافتها وتبيانها للقارئ الكريم؟


لقد اندهشت لمدى التفاف الجماهير حول فيلم «صراع» وعرفت أن الطريق التي سلكتها صعبة ولكنها ذات تأثير كبير على الجماهير العريضة وأريد أن أشكر كل من ساندني من الجماهير والفنانين والفنيين ومستعملي شبكات التواصل الاجتماعي والمحامين والقضاة الذين كانوا سباقين لبث فيلمي في ديارهم ولا أنسى مساندة الرئيس السابق للجمهورية السيد المنصف المزوقي الذي فتح لي ابواب قصر قرطاج لعرض الفيلم والصحافيين والنقاد والحقوقيين وكل الأجانب الذين شجعوني على هذا العمل وأشكر كل العاملين في هذا الفيلم فلولاهم ما كان ليكون «صراع».. لأن أهم شيء في الحياة هو الانسان وعليه لابد ان نراهن على صون كرامته واقامة العدل فيه وبذلك نستطيع ان نبني المجتمعات الفاضلة التي نصبوا اليها، وبالله التوفيق.


كلمة ختامية نثرا أم شعرا لأنه قيل لنا أنك من هواته؟


أختم حواري، شاكرا لكم صبركم معي، وهذه قطوف من قصائدي عن الانتفاضة الفلسطينية وهجرتي للخارج، أقول في مستهلها:


لقدْ قالُوا لي: لماذا اِنْتَفَضْتْ؟ والمشاكلَ والهُمُومَ آثَرْتْ؟
إنَّنِي ـ لمّا اِغْتَصَبُوا القُدْسَ ـ إلى الشّوارِع، مع أصْحابِي، نَزَلْتْ،
وبالعُدْوانِ الغاشِمِ على فِلسطين، نَدَّدْتْ.
فقالوا لي: أنتَ عَنِيدٌ مِنْ يَوْمِ وُلِدْتْ!
وكان يَومُ السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ أُغُسْطُس، يوْمَها تَدَبَّرْتُ أَمْرِي، وَقَرَّرْتْ،
ومن َبَلَدِي الحَبِيب هاجَرْتْ.


محمد مصطفى حابس
7 جوان 2015