في الشوارع كما في الندوات، في المسيرات كما في الوقفات الاحتجاجية، نراه رافعًا لشعارات عن الديمقراطية، مدافعًا عن كرامة الإنسان، مطالبًا بمزيد من الحرية، وثائرًا من أجل عدالة اجتماعية، هي واجهة المناضل الملحمية، تلبس ثوب الطهارة الثورية التي قد تخفي وراء عبارات رنانة، تفاصيل إنسانية عميقة ومثقلة بالازدواجية في بعض الأحيان.
في السينما العربية، شُخِص المناضل في وضعيات ومواقف مختلفة، فمن المناضل الثوري إلى الانتهازي، ومن حامل الأفكار الماركسية والتقدمية اليسارية إلى المؤمن بأفكار المرجعية الإسلامية. ألترا صوت يعرض لكم 4 أفلام سينمائية عربية جسدت شخصية المناضل:
لم يكتف فيلم "الثلاثة يشتغلونها" لمؤلفه يوسف معاطي ولمخرجه علي إدريس بتجسيد شخصية المناضل في قالب ثوري جاهز، بل حاول أن يكشف الوجه الآخر المخفي وراء الشعارات الجوفاء، إذ سخر العمل بشكل لافت من انتهازية وتناقضات شخصية المناضل "خالد" صاحب الأفكار الاشتراكية اليسارية وهو العائش في ترف لا يتناسب مع خطاباته الثورية.
ونستشف ذلك في المقطع الذي أفصح فيه "خالد" لـ"نجيبة" عن تألمه من القهر الاجتماعي ودوامة الفقر والبطالة التي يرزح تحت وطأتها السواد الأعظم من الكادحين، لكن خطابه يتناقض مع امتلاكه لسيارة فارهة "مرسيدس" وهو الشيء الذي أثار استغراب نجيبة عندما سألته "هو أنت من الكادحين ولا من الرأسماليين؟".
لم يكتف فيلم "الثلاثة يشتغلونها" لمؤلفه يوسف معاطي ولمخرجه علي إدريس بتجسيد شخصية المناضل في قالب ثوري جاهز
خطاب "خالد" في فيلم "الثلاثة يشتغلونها" لم ينته عند حد الازدواجية، إذ صور الفيلم الشخصية بشكل كاريكاتوري وهي تدعي انحيازها لقضايا الفلاحين والعمال والكادحين، بعد أن دخلت في حالة من الانتشاء والافتخار بانتمائها لمجموعة من المنظمات والهيئات الاحتجاجية والمناصرة لحقوق الغلابة، وهي في نفس الوقت لا تجد غضاضة ولا مانعًا في سب وشتم واحتقار فلاح يجر حماره بأبشع الأوصاف والنعوت لمجرد أنه عرقل سير سيارتها الفارهة.
تختلف صورة المناضل في فيلم "طيور الظلام" لمؤلفه المثير للجدل وحيد حامد عن شخصية "خالد" في فيلم "الثلاثة يشتغلونها"، فشخصية "محسن" كما جسدها الفنان الراحل أحمد راتب، ترفض الإغراءات والعروض التي قدمها له صديقه "نوفل" الطامح و"الوصولي" مقابل كتابته لشعارات انتخابية ذات حمولات شعبية واشتراكية، ورغم أنه يعمل كمحاسب بإحدى شركات الحلويات بأجر متوسط، إلا أن محاولات "نوفل" باءت بالفشل عندما رد عليه المناضل بـ"أنا مؤمن بشعاراتي، ومش ممكن أتاجر فيها أو أوظفها في سياسة أنا مش مقتنع بها".
كثيرًا ما تختزل السينما العربية صورة المناضل في اليساري ذي التوجهات الاشتراكية أو التقدمية، لكن في فيلم "صراع" لمخرجه التونسي منصف بربوش، نجد حضوريًا قويًا للمناضلين ذوي المرجعية الإسلامية المنتمين لحركة النهضة المعارضة لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
في أطوار الفيلم تركيز شديد على ما يتعرض له الإسلاميون من شتى صنوف التعذيب والإقصاء السياسي. العمل لم يرق بعض النقاد والمتابعين كونه "يهمش" دور اليساريين والليبراليين في معارضة نظام بن علي من خلال تصويرهم مجرد كتاب رأي، أو رسامي كاريكاتور ولا يواجهون عنفًا أو عسفًا بالجرعة التي ذاقها الإسلاميون.
اقرأ/ي أيضًا: أفلام ديفيد لينش بين الواقعية وعالمه السريالي المتخيل
حسين محنوش، كاتب سيناريو الفيلم، رد في تصريح صحافي على مؤاخذات النقاد بأنه لم ينكر نضالات اليساريين والنقابيين، مضيفًا أن: "معاناة الإسلاميين في تلك الفترة كانت أكبر؛ فهناك فرق بين الذي قضى خمسة أو ستة أشهر في السجن وبين الذي أمضى سنوات من عمره".
في فيلم "هم الكلاب" المغربي، رحلة بحث عن ماضٍ متشظٍ لشخصية مناضل، يحاول أن يستجمع أشلاءه الممزقة رفقة طاقم صحافي لإحدى القنوات يرغب في إنجاز مادة صحافية مصورة عن تصورات المغاربة حول احتجاجات حركة 20 شباط/فبراير.
في أطوار الفيلم، تجسيد لصورة مناضل ضائع، أفنى ثلث عمره في المعتقلات السرية إثر مشاركته في مظاهرات ما يعرف تاريخيًا بثورة "الكوميرا" (ثورة الخبز) عام 1984، نتيجة تبني الحكومة آنذاك لزيادة غير مسبوقة في الأسعار. هشام العسري، مخرج فيلم "هم الكلاب"، غاص بعمق في المكنون النفسي للشخصية، والأثر الذي تركته سنوات الجمر والرصاص في نفس ذاقت ويلات التعذيب والاعتقال لعقدين من الزمن.
في فيلم"هم الكلاب" تجسيد لصورة مناضل ضائع، أفنى ثلث عمره في المعتقلات السرية إثر مشاركته في مظاهرات ما يعرف بثورة الكوميرا
فيلم "هم الكلاب" أنتج عام 2013، في سياق الربيع العربي، وما شهده البلد من حراك سياسي واجتماعي يطالب بإصلاحات جذرية نادت بملكية برلمانية وتعزيز الديمقراطية والحريات العامة ومكافحة الفساد والاستبداد.
صورة المناضل تختلف
لا يوجد توافق أو تشابه في تشخيص صورة المناضل في الأفلام العربية، فصورة المناضل تختلف في الأعمال السينمائية العربية حسب السياق السياسي والاجتماعي والتاريخي لكل بلد. ففي السينما المصرية، تم قولبة المناضل في فترة السبعينات في شخصية المعارض لنظام حكم جمال عبد الناصر، ونجد ذلك في أفلام من قبيل "الكرنك"، و"زائر الفجر" و"وراء الشمس" و"إحنا بتوع الأتوبيس".
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Morvern Callar": الهروب على طريقة ألبير كامو
لكن الصورة تغيرت في فترة "مبارك"، أي حقبة الثمانينات إلى حدود 2010، التي اتسمت أفلامها بالواقعية الجديدة، ولم تختزل المناضل في صورة المعارض للحكم كما في سينما فترة السادات، أو مقاومًا للاستعمار ومتمردًا على الحكم الملكي كما في سينما فترة جمال عبد الناصر، بل شخصته في صور متعددة، ولو أن التركيز أساسًا كان على شخصية المناضل ذي التوجه اليساري الاشتراكي أكثر من التيارات الأيدولوجية الأخرى.
ففي فيلم "السفارة في العمارة" لمؤلفه الساخر يوسف معاطي، اِخْتُزِلَ المناضل اليساري في كليشيه "المتعفن"، "الرث" في ملابسه والمحب للصراخ، والعائش في برج طوباوي من الأفكار والمصطلحات المتعالية عن واقعه والغريب عن مجتمعه.
في فيلم "صراع" نجد حضوريًا قويًا للمناضلين ذوي المرجعية الإسلامية المنتمين لحركة النهضة المعارضة لنظام المخلوع بن علي
وفي المقابل يغيب إلى حد ما المناضل ذو المرجعية الإسلامية أو يتم تهميشه أو قولبته على شكل إخواني وصولي يتطلع للسلطة كما نرى ذلك في شخصية المحامي "علي" التي جسدها الفنان رياض الخولي في فيلم طيور الظلام. في السينما المغربية، اقتصر دور المناضل بالأساس على شخصية المعارض والمتمرد للنظام السياسي إبان فترة السبعينات إلى حدود نهاية التسعينات، أو ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص.
أفلام كثيرة أنتجت لهذا الغرض في إطار دعم حكومي متمثل في المركز السينمائي المغربي، نذكر منها "جوهرة بنت الحبس"، "نصف سماء"، و"درب مولاي الشريف"، ويؤاخذ على هذه الأعمال أنها لم تستطع أن تشخص المناضل في وقتنا الراهن. نفس الأمر قد نلامسه في السينما التونسية، التي حبذت أن تركز على صورة المناضل المعارض لنظام حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
غير أن السينما الفلسطينية، ارتأت أن تحاكي قلق الإنسان الفلسطيني في استعادة أرضه من المحتل الإسرائيلي، من هنا تم توظيف المناضل في صورة المقاوم للاحتلال من خلال أعمال سينمائية تحاول أن ترسل رسائل للعالم عن النضال من أجل استرداد الأرض، وإقناعه بشرعية مقاومة الاحتلال.