المنصف بربوش مخرج فيلم "صراع" ..للتونسية:
حوار صباح توجاني
يظل فيلم "صراع" لمخرجه السينمائي المثير للجدل المنصف بربوش حديث الفنانين ومحبي الشاشة الكبيرة لما خلفه من نقاشات حادة وصلت بالبعض الى اتهامه بالإنحياز والإنتماء الى حركة النهضة وأنه سخر انتاجه الجديد "لتبييض" تاريخ الإسلاميين من خلال عرض معاناتهم ايام حكم الرئيس بن علي. والحقيقة ان الفيلم بعيون موضوعية ينأى بقصته عن مثل هذه الإتهامات التي لا تخرج عن إطار التجاذبات السياسية الضيقة وإعادة تشكيل محاور الصراع بين اليمين واليسار دون رأفة بالفن السينمائي الذي هو براء من هذا وذاك.
التقينا المخرج المنصف بربوش ليحكي عن فيلمه الذي انقسم الجمهور الذي شاهده الى ثلاثة اقسام، شق تابع احداث الفيلم بفضول المحب للسينما التونسية واعتبر ان الفيلم يجسم بصدق معاناة وعذابات التونسيين بمختلف انتماءاتهم الإيديولوجية، وشق دخل قاعة العرض وهو على اقتناع بان الفيلم يرمي الى "تطهير" فئة من السياسيين مما علق بهم من تهم خطيرة ولذا فان حكمهم على الفيلم جاهز قبل مشاهدته، اما الشق الثالث، فهم أولئك الضحايا أو من تبقى منهم على قيد الحياة ولم يستطعوا تجاوز المحنة التي مروا بها وتركت أثارها على أجسادهم العليلة وقلوبهم المثخنة بالجراح...
سألت المنصف بربوش :
" مالذي شجعك على انتاج فيلم مزعج كهذا ؟ فقال :
" أولا لا بد من التاكيد على أنني عشت اكثر من 20 عاما مهجرا بسبب تهم لفقها لي بوليس بن علي، فغادرت البلاد خلسة وكأنني مجرم يلاحقه الأمن للقبض عليه، وذقت ويلات الغربة والتخفي والتنقل بجواز سفر مزور...وللأسف لم أكن وحدي بل إن اطفالي الصغار وزوجتي ذاقوا معي ويلات التنكر واحتباس الأنفاس حتى لا تتفطن الينا الألة البوليسية لبن علي...منذ ما قبل الثورة وفكرة الفيلم تراودني...فلما انبلج صبح الحرية اعتبرت انه من واجبي ان أنقل للتونسيين ولكافة الناس معاناة وعذابات كافة الفئات المثقفة من يمين ويسار من نقابيين شرفاء الى يساريين مناضلين مرورا بالإسلاميين المظلومين...فانتجت فيلم "صراع" وكان يحدوني الأمل أن اخرج بفيلم صادق يصور الجراح النازفة لكل من قال لا لبن علي...
وطوال مسيرتي الفنية التي انطلقت فيها حتى قبل أن احصل على شهادة جامعية من المعهد الأعلى للفنون للسينما بالقاهرةعام 197976، لم أحصل ولو على مليم واحد كدعم رسمي لإنتاجاتي التي بدأت بفيلم روائي ّبعنوان "فوق حدود العقل" فيالقاهرةعن قصة ليوسف إدريس،ثم ّتوليت اخراج افلام للتّلفزةالتّونسيّة كان أوّلها فلم الصمود،ثمّ"حصاربيروت"... بعد الثورة انتجت فيلمين اخرين قبل "صراع" اعتز بهما كثيرا "9 أفريل" و "الصابرون"...
_س: ولكن هذان الفيلمان مرا مرور الكرام مقارنة بما خلقه فيلمك الأخير "صراع" من جدل وتجاذبات سياسية – سينمائية حتى انه صار حديث الموسم الثقافي حتى قبل عرضه واقصد منذ رفضته الهيئة المديرة لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الأخيرة..
_ج: أجل هذا صحيح، لقد فوجئت برفض ادارة مهرجان أيام قرطاج السينمائية عرض فيلمي "صراع" في إطار المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة بتعلة ان الأيام تزامنت مع الحملات الإنتخابية وكانت الإدارة تخشى ان يؤثلر الفيلم في توجهات الناخبين.....
_س: قال أحد الإعلاميين ممن اعجبهم الفيلم ان "صراع" ازعج البعض فكالوا له التهم وعملوا على اقصاءه من ايام قرطاج السينمائية حتى يخلو لهم الجو...ولا يزاحمهم احدا في القطاع السينمائي الذي يحكمه لوبي معروف..
_ج: من موقعي كمخرج سينمائي وبوصفي رجلا اؤمن بالديمقراطية وبحرية التعبير، أحترم كل الأراء واتفهم ردود الفعل مهما كانت متشنجة،، فالفيلم فعلا مزعج بمقاييس السينما العربية والعالمية لأنه حرك مناطق راكدة في دواخلنا...البعض يحاول تجاوز مخلفات عذاباته في سجون بن علي وبورقيبة ويطمح الى أن يرى صدى لنضالاته ايام الجمر، والبعض الأخر يرى انه لا يحق لهؤلاء نشر ما قاسوه من ظلم وقهر باعتبار انهم لم يكونوا الوحيدين بل إن فئات أخرى من التونسيين أيضا لاقت ما لقوه من اعتداءات ضد ابسط حقوق الإنسان وجب التركيز عليها أيضا.
وهنا اؤكد بأن فيلم "صراع" لم يصور معاناة الإسلاميين بل اردته جامعا لكل التونسيين، اي أن النقابي واليساري والديمقراطي كلهم يجدون صدى لصيحاتهم ولحصص التعذيب التي أخضعهم اليها بوليس بورقيبة وبن علي...أنا مؤمن بأن النضال واحد وإن تغيرت الوسائل، فالنقابي كان يناضل من أجل الإعتراف بحقوق العمال، واليساري يدافع عن حق الإختلاف والإسلامي يرفع شعار الحرية أيضا والكل تونسيون يجمع بينهم الوطن ويظللهم ويوحد بينهم...خاصة وان السجون التونسية جمعت بينهم وجدرانها خير شاهد على ما أقول.
وأنا كرجل سينما سعيت الى نقل صورة صادقة سواء الى الجيل الذي سلط عليه بن علي وبورقيبة سياطهما ومارس عليه جلادوهما اسوء أنواع التعذيب والتنكيل، أو الى الأجيال التي ولدت خلال الثمانينات واواخر التسعينات وهم الشباب النشيط الذي أسقط الطاغية في ظرف أيام معدودة وفي ذلك التقاء بين الكهل والشيخ والشباب،،، "صراع" أردته وثيقة لتصحيح التاريخ الذي دلسه بن علي.
_س: ولكن الفيلم في حد ذاته مخاطرة كبيرة عدا ان ردود الفعل كانت مختلفة وانه أقصي من أهم تظاهرة سينمائية في تونس، فقد اخترت عددا من الفنانين المشهورين بالتوازي مع مراهنتك على عدد اخر من الشباب الذي يمثل ربما لأول مرة..
_ج: قوبل الفيلم بحملة اعلامية لم أكن أتوقعها وإن لم تفاجئني باعتباري ادخل الساحة السينمائية من جديد ولكن بفيلم طويل لن يعجب الجميع ما في ذلك شك...المني اقصاؤه من ايام قرطاج السينمائية،،،نعم ولكن الحملة ضده لم تزدني سوى اصرارا على مواصلة طريقي خاصة وان الثورة اكسبتنا ومنحتنا حرية التعبير.
أعتز كثيرا بمشاركة كبار الفن في تونس في هذا الفيلم ولكني بقدر ارتياحي لأداءهم، فأنا جد فخور بتشريك الشباب الفنان الذي له يعود الفضل في انجاز الثورة، وأبسط الإيمان أن امنحه فرصة الظهور في فيلم من إنتاجي. والحقيقة ان النقاد "الصحاح" أثنوا على أداء الفنانين الكبار والشباب على حد سواء...وأعتبر هذا الثناء بلسما لجروحي كأحد ضحايا الة القمع والظلم في عهد الطاغية بن علي.
_س: ألم تلاحظ ان الحكم على النوايا تغلب على النقد السينمائي الموضوعي، بمعنى ان التناول الإعلامي للفيلم ركز على ما تحمله ربما من افكار او ايديولوجيا مقابل تجاهل تام للمشاهد القوية التي صورها ونقلها وتفاعل معها الجمهور بكاء وتأثرا....واحتراما لرجال ونساء افنوا سنوات من اعمارهم في غياهب السجن الإنفرادي لنحيا بعزة وكرامة؟؟
_ج: هاقد عبرت عما اختلج في صدري، نعم اسفت كثيرا لتركيز البعض ممن لا مرجعية سينمائية ولا فنية لديهم، على ما تخيلوا انه انتماء لي لحركة النهضة، وهذه مناسبة لأعلن من خلالها أنني لأم ولا أنتمي الى الحركة،،صحيح لدي أصدقاء من الإتجاه الإسلامي ومن اليسار الشيوعي ومن النقابيين الشرفاء،،،ولكن لا إنتماء سياسي يكبلي ويجبرني على خدمة طرف على حساب أخر...أنا رجل سينما وفن..فقط..."السياسة ليها أماليها" ولو أن السياسة اليوم طغت على علاقاتنا ونقاشاتنا وحتى أحاسيسنا..
_س: سي المنصف لو سألتك عن الرسائل التي أردت توجيهها من خلال "صراع" الذي خلف صراعات ...
_ج: فعلا انتج "صراع" صراعات، والفيلم من هذه الزاوية نجح نجاحا مثيرا في تحريك المياه الراكدة. اما فيما يتعلق بالرسائل التي وجههتها من خلال أبطال وبطلات الفيلم والأحداث التي يصورها، فقد سعيت جاهدا على ان أؤكد للتونسيين جميعا بأنه من المستحيل أن نسمح بعد الثورة بحصول انتهاكات واعتداءات وعمليات تعذيب سواء داخل السجون التونسية أو خارجها، لقد كان زمنا وولى، والثورة أعادت الإعتبار لماهية الإنسان وأكسبته حقوقه الكونية وصانت حرمته الجسدية، فلا مجال لإنتهاك الحقوق في مفهومها الشامل.
كما أردت أن اطرح مسألة التوافق بين عامة التونسيين من مختلف الحساسيات والإيديولوجيات، من ذلك أنني تعرضت وأبرزت حركة 18 أكتوبر التي جمعت شمل من فرقتهم السياسي أو الكراسي والمناصب...كان مثالا قويا على روح التحابب والتعاون والوحدة بين التونسيين الذين وحدت بينهم الثورة، لكن المصالح الحزبية والشخصية فرقت بينهم...
الى جانب كل ذلك ربما اكون حاولت اعادة الإعتبار على طريقتي لكل من ذاق مرارة الإضطهاد وعرف عن قرب ظلم الملاحقة البوليسية ومحاصرة رجال الأمن للبيوت وإرهاب الأطفال الصغار وسحل النساء واغتصاب الأخت أو الزوجة أمام أنظار زوجها أو أخيها العاجز عن الدفاع عنها...ربما إجتهدت لأقول لمن لم يكن يعلم شيئا عن سنوات الجمر بان "صراع" هو شهادة حية وصادقة لما عاناه كل تونسي امن بمبادئه وبأفكاره وبحريته وكرامته طيلة عقود....حتى لا تتكرر الماسا وحتى يحيا ابناؤنا حياة العز والكرامة والحرية..
بأختصار يمكن ان اصنف فيلم "صراع" في خانة الأفلام الروائية الواقعية الطويلة الذي بمقدور العائلة التونسية متابعة أحداثه دون حرج.. هو شهادة للتاريخ قجدمتها أسماء فنية تونسية مشهورة على غرار لمياء العمري وصلاح مصدق وهشام رستم وحليمة داود وصالح الجدي والمخرج المنفذ انور العياشي في نص للحسين المحنوش... عملت مع هذا الفريق المميز اسابيع متتالية وسعدت كثيرا لتضافر جهودهم من اجل انتاج عمل راقي يليق بنا جميعا.
"صراع" فيلم المقهورين والمضطهدين والمعذبين والمهجرين ...وضحايا القمع والسجون..."صراع" أقولها بكل ثقة في النفس وبصدق، هو فيلم جميع هؤلاء وهو فيلم لا لون سياسي له...أما من يقول عكس ذلك، فليحاججني...وله مني كل الشكر لأنه ساهم في الإشهار للفيلم مجانا..."